الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن الحصار الكبير لتلمسان وما تخلل ذلك من الأحداث: لما توفرت عزائم السلطان عن النهوض إلى تلمسان ومطاولة حصارها إلى أن يظفر بها وبقومها واستيقن أنه لا مدافع له عن ذلك نهض من فاس شهر رجب من سنة ثمان وتسعين وستمائة بعد أن استكمل حشده ونادى في قومه واعترض عساكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عليهم وارتحل في التعبية واحتل بساحة تلمسان ثاني شعبان وأناخ عليها وشرب معسكره بفنائها وحجز ضمان بن يغمراسن وحاميتما من قومه وأدار الأسوار سياجا على عمرانها كله ومن ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى ورتب المسالح على أبوابها وفرجها وسرح عساكره لمحاصرتها فاقتحموها وآتوا طاعتهم وأوفد مشيختهم وسط شعبان ثم سرح عسكره لمحاصرة وهران وتقرى البسائط ومنازلة الأمصار فأخذت مازونة في جمادى الآخرة من سنة سبع وتسعين وستمائة وتنس في شعبان بعده وتالموت والقصبات وتامزردكت في رمضان منه وفيه كان فتح مدينة وفران وسارت عساكره في الجهات إلى أن بلغت بجاية كما نذكره وأخذ الرعب بقلوب الأمم بالنواحي وتغلب على ضواحي مغراوة وتوجين وسارت فيها عساكره ودوختها كتائبه واقتحمت أمصارها مثل مليانة ومستغانم وشرشال والبطحاء ووانشريش والمرية وتافركينت وأطاعه زيري المنتزي ببرشك وأتى بيعته وابن علان المنتري بالجزائر وأزعج الناكثين منهم عن طاعته واستألف أهل الطاعة كما نذكره وحذره الموحدون من ورائهم بإفريقية ملوك بجاية وملوك تونس فمدوا إليه يد المواصلة ولاطفوه بالمتاحفة والمهاداة كما نذكره وخاطب صاحب الديار المصرية ملك الترك وهاداه وراجعه كما نذكره ووفد عليه شرفاء مكة بني أبي نمى كما نذكر وهو في خلال ذلك مستجمع للمطاولة بالحصار والتضييق متجاف عن القتال إلا في بعض الأيام ولم تبلغ أربعة أو خمسة ينزل شديد العقاب والسطوة بمن يميرها ويأخذ بالمرصاد على من يتسلل بالأقوات إليها قد جعل سرداق الأسوار المحيطة ملاكا لأمره في ذلك فلا يخلص إليهم الطيف ولا يكاد يصل إليهم العيث مدة مقامه عليها إلى أن هلك بعد مائة شهر كما نذكره واختط بمكان فسطاط المعسكر قصرا لسكناه واتخذ به مسجدا لمصلاه وأدار عليها السور وأمر الناس بالبناء فبنوا الدور الواسعة والمنازل الرحيبة والقصور الأنيقة واتخذوا البساتين وأجروا المياه ثم أمر بإدارة السور سياجا على ذلك سنة اثنتين وسبعمائة وصيرها مصرا فكانت من أعظم الأمصار والمدن وأحفلها اتساع خطة وكثرة عمران ونفاق أسواق واحتفال بناء وتشييد منعة وأمر باتخاذ الحمامات والمارستان وابتنى مسجدا جامعا وشيد له مأذنة رفيعة فكان من أحفل مساجد الأمصار وأعظمها وسماها المنصورة واستبحر عمرانها ونفقت أسواقها ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق فكانت إحدى مدائن المغرب وخربها آل يغمراسن عند مهلكه وارتحال كتائبه عنها بعد أن كان بنو عبد الواد أشرفوا على الهلاك وأذنوا بالانفراض كما نذكره فتداركهم من لطف الله ما شأنه أن يتدارك المتورطين في المهالك والله غالب على أمره..الخبر عن افتتاح بلاد مغراوة وما تخلل ذلك من الأحداث: لما أناخ السلطان على تلمسان وتغلب على ضواحي بني عبد الواد وافتتح أمصارهم سما إلى التغلب على ممالك مغراوة وبني توجين وكان ثابت بن منديل قد وفد على السلطان بمقر ملكه من فاس سنة أربع وتسعين وستمائة وأصهر إليه في حافدته فعقد له عليها وهلك ثابت بمكان وفادته من دولتهم وأعرس السلطان بحافدته سنة ست وتسعين وستمائة كما ذكرنا ذلك من قبل فلما تغلب السلطان على مال بني عبد الواد جهز عساكره إلى بلاد مغراوة وعقد عليها لعلي بن محمد من عظماء بني ورتاجن فتغلبوا على الضواحي وشردوا مغراوة إلى رؤوس المعاقل واعتصم راشد بن محمد بن ثابت بن منديل صهر السطان بمليانة فنازلوه بها ثم استنزلوه على الأمان تسع وتسعبن وستمائة فأوفدوه على السلطان فلقاه مبرة وتكرمة وخلطه بجملته لمكان صهره معه ثم افتتحوا مدينة تدلس ومازونة وشرشال وأعطى زبري بن حماد المنتزي على برشك من بلادهم يد الطاعة وأوفد على السلطان للبيعة واستولوا على ضواحي شلف كلها ولاذت مغراوة بطاعة السلطان وعقد عليهم وعلى جميع بلادهم لعمر بن ويفرن بن منديل فآسف ذلك راشد بن محمد لما كان يراه لنفسه من الاختصاص ولما كانت أخته حظية السلطان وكريمته ونافس عمر بن وبفرن في إمارة قومه فلحق بجبال متيجة وأجلب على من هنالك من عمال السلطان وعساكره وانحاش إليه مرضى القلوب من قومه فاعصوصبوا عليه وداخلوا أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وملكوه أمرهم في ربيع من المائة السابعة ثم بيت عمر بن ويفرن بمعسكره من أزمور فقتله واستباح المعسكر وبلغ الخبر إلى السلطان فسرح العساكر من بنى مرين وعقد لعلي بن الحسن بن أبي الطلاق على قومه من بني عسكر ولعلي بن محمد الخيري على قومه من بني ورتاجن وجعل الأمر شورى بينهما وأشرك معهما عليا الحساني من صنائع دولته وأبا بكر بن إبراهيم بن عبد القوي من أعياص بني توجين وعقد على مغراوة محمد بن عمر بن منديل وأشركه معهم وزحفوا إلى راشد ولما أحس بالعساكر لجأ إلى معقل بني بو سعيد فيمن معه من شيعة مغراوة وأنزل بما زونة عليا وحمو ابني عمه يحيى بن ثابت واستوصاهم بضبط البلد وأنه مشرف عليهم من الجبل وجاءت عساكر السلطان إلى بلاد منراوة فتغلبوا على البسائط وأناخوا بمازونة وضربوا معسكرهم بساحتها وأخذوا بمخنقها واهتبل علي وقومه غرة في معسكر بني مرين فبيتهم سنة إحدى وسبعمائة وانفض المعسكر وتقبض على علي بن محمد الخيري ثم امتنعوا عليه وعاد المعسكر إلى مكانهم من حصارهم وجهدهم حالهم فنزل إليهم حمو بن يحيى على حكم السلطان وانفذوه إليه فتقبض عليه ثم نزل علي ثانيه من غير عهد فأشخصوه إلى السلطان فلقاه مبزة وتكريما تأنيسا الراشد المنتزي بمعقله واقتحمت على أهلها عنوة سنة ثلاث وسبعمائة فمات منهم عالم واحتملت رؤوسهم إلى سدة السلطان رؤسهم إلى سدة السلطان فرميت في حفائر البلد المحصور إرهابا لهم وتخذيلا ولما عقد السلطان لأخيه أبي يحيى على بلاد الشرق وسرحه لتدويخ التخوم نازل راشد بمعقله من بني بو سعيد فبيت راشد معسكرهم إحدى لياليه فانفضوا وقتل طائفة من بنى مرين ووجد السلطان لها فأمر بقتل علي وحمو ابني عمه يحيى ومن كان معتقلا معهما من قومهما ورفعوا كل الجذوع وأثبتوهم بالسهام ونزل راشد بعدها عن معقله ولحق بمتيجة وانحاش إليه منيف بن ثابت وأوشاب من مغراوة وتحيز الآخرون إلى أميرهم محمد بن عمر بن منديل الذي عقد له السلطان عليهم ثم تأشبت على راشد ومنيف خوارج الثعالبة ومليكش وصمد إليهم الأمير أبو يحيى في عساكره ثانية ونازلهم بمعاقلهم ورغبوا في السلم فبذله السلطان لهم وأجاز منيف بن ثابت إلى الأندلس فيمن إليه من بنيه وعشيره فاستقروا بها آخر الأيام ولحق راشد ببلاد الموحدين ووفد محمد بن منديل سنة خمس وسبعمائة على السلطان فأوسعه حبا وتكريما وتمهدت بلاد مغراوة واستبد بملكها السلطان وصرف إليها العمال ولم يزل كذلك إلى أن ملك سنة ست وسبعمائة والله تعالى أعلم.
|